من هو ذو القرنين؟
هذا الرجل طاف لمسافات كبيرة جداً في الكرة الأرضية، هو وفريق العلماء الذي يرافقه، ومفتاح شخصية هذا الرجل شيئين: الأول دنيوي والثاني إيماني. الشيء الدنيوي: هو حب اكتشاف المجهول، الشيء الإيماني: هو حب الخير والإصلاح في الناس، فاستخدم حبه لاكتشاف المجهول من أجل الإصلاح في الأرض.
فإذا قارناه بنابليون، فيكون هوالأفضل؛ فنابليون هُزم في النهاية، وإذا قارناه بالإسكندر الأكبر، فيكون هو الأفضل؛ فالإسكندر أفسد في النهاية، فإذا قارناه بأمريكا، فيكون هو الأفضل؛ فأمريكا لديها بعض أسباب القوة، لكن لم يجتمع لأحد من كل شيء سبباً، فهي قوة لم تحدث من قبل! يقول سفيان الثوري:" لم يجتمع لبشر مَلَكَ الأرض إلا لمؤمنين: سُليمان وذي القرنين"، والآية تقول: "... وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً "، فالله تعالى أعطاه الأسباب ولا توجد خوارق، فهو ليس نبي ولا مَلِك، فالله تعالى أعطاه مفاتيح العلوم، والحضارة، والنجاح، وهو لديه حب اكتشاف المجهول، وتَربى على حب الخير والعطاء لكل البشر بصرف النظر عن جنسياتهم أو أديانهم، وهو مشابه لإبراهيم عليه السلام ويوسف عليه السلام، ومن أشباه الفاتحين في الإسلام: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهم، ومن أشباه المستكشفين: كولومبس، وتاسكو داجاما، و من أشباه زعماء العالم الذين طافوا الأرض كالإسكندر لكنه تفوق عليه بشدة. هو شخصية عالمية، فذة، مؤمنة، مُصلحة. فلماذا يحكي لنا الله قصته في القرآن؟ فهذا هو قرآننا والله آتانا من أسباب الإصلاح والنهضة.
ذو القرنين والطموح:
ملحوظة عجيبة: لماذا ذكره القرآن باسم ذو القرنين؟ ألأنه بلغ قرنيِّ الشمس! أم لأنه ملك قرني الحضارة! وهو المعنى الأعمق، والحضارة إما مادية أو روحانية، وعادةً الذي يجمع بين الاثنين يكون قليلاً جداً، فالغرب يمتلك حضارة مادية عظيمة لكنه يفتقر للروحانيات، أما ذو القرنين فقد ملك قرن العلم، وبتوجيهه العلم للإصلاح فقد ملك قرن الإيمان. "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ". أنه مُكِن من كل الأرض، بالأسباب وليس بالتواكل، بل بالعمل، والهندسة، والجغرافيا، والطب، والتاريخ، والعلوم، واللغات، والمعمار والآلات الحربية، فعندما يجوب العالم سيحتاج لكل تلك العلوم، فكفانا تواكل! ونحن ندعو كل رمضان أن ينصرنا الله ومع ذلك حالنا كما هو، لأنه دعاء بدون عمل، وفي سورة آل عمران صفحة كاملة دعاء: "رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا ... " (آل عمران 193)، ثم الرد على الفور "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم ... "، ولم يقل دعوة داعٍ، وذو القرنين لم يكتفِ بأخذ الأسباب كلها، بل في الآية: "فَأَتْبَعَ سَبَباً " (الكهف85)، وجه شعبه وشباب الأُمة لمزيد من العلم، فعلم الله لا ينفذ وقد أعطاه مفاتيحه، وهذا طموح غير عادي.
فإذا أعطى الله أحد الشباب موهبة ما، تجده يحمد الله عليها ثم يتوقف على ذلك، ويستخدمها عدة سنوات ثم يقف، مثل لاعب الكرة الذي يوقف طموحه ولا ينطلق للعالمية لكي نرى أفضل لاعب مسلم على مستوى العالم، ومثل صاحب شركة محلية ينجح بشدة ولا يصل بها إلى العالمية مثل الغرب لأن طموحه توقف، ومثل كاتب القصة الذي يصبح أفضل كاتب في الوطن العربي ولا ينطلق للعالمية لأنه لا يُطور من نفسه.
نشأة ذو القرنين :
الله تعالى جعل السماء عالية ليصبح طموحك بلا نهاية، فتخيل إن كانت فوق رأسك مباشرة! أما ذو القرنين فهو يعمل بطموحه ليل نهار، والسؤال هو كيف أصبح هكذا؟ الجواب يتلخص في ثلاث نقاط:
1. ذو القرنين نتاج أُمة فمن غير الممكن أن يكون هكذا وحده، لكي لا نظلم أنفسنا، أو أظلم الشباب بأن أجبرهم على أن يكونوا ذا القرنين، فذو القرنين عمل تراكمي، من الممكن جداً أن يكون 300 سنة عمل من جيل لجيل، يبدأ بالتعليم مثل قصة موسى والخضر، ثم أُمة لها رسالة، ثم عزم، ثم قوة، ثم علم، ثم ينتج ذو القرنين، فذو القرنين ليس نتاج نفسه بل نتاج أُمة، مثل صلاح الدين الذي ليس نتاج نفسه، فأولاً خرج الإمام أبي حامد الغزالي، وقدم كتاب إحياء علوم الدين، ليُفهَمَ الدين بشكل يناسب زمانهم، وبدأ ينشئ مدارس تَخَرج منها نور الدين محمود، وأسد الدين شيركوه، ثم خرج صلاح الدين، فإذ هم ثلاث أجيالٍ. فلن نظلم الشباب ولكن على الأقل لابد من وضع بذور ينتج منها ذو القرنين، ولماذا يحكي الله تعالى لنا هذه القصة؟ أين الأُمة التي تُخرج ذو القرنين؟
2. ذو القرنين بدايته حلم، وأنا متأكد أن قصة مشرق الشمس ومغربها بدايتها حلم زُرع به منذ الطفولة من والديه أو منه، ويتفكر ويرى الشمس والغروب وحب الاستكشاف وهي الصفة التي يفتقدها شباب المسلمين اليوم، والمجهول لايزال كثير في العالم، المجهول في أعماق البحار، وآفاق السماء، وفي الكائنات الحية، وفي جسم الإنسان، وفي قاع الأرض من معادن وبترول. لذا فالمجهول لازال كثيراً ويبحث عن من يكتشفه، شباب الغرب مازال لديهم حب الاستكشاف، ومازال شباب المسلمين لديهم خجل وتوقف من اقتحام المجهول، فهل هذا بسبب طريقة التعليم؟ أم قلة الثقة بالنفس؟ أم قلة الطموح؟ وذو القرنين حلمه الأرض كلها، والله تعالى لم يصف لنا الأماكن التي وصل لها جغرافياً، لكن أخبرنا أنه وصل لآخر الأرض غرباً وأخر الأرض شرقاً، وهكذا كان طموحه، فلم يُحَجمه بأماكن، فلماذا لا تحلم أنت؟ هل تخاف أن تدفع! أم تخاف أن تحلم! لا تكن ضعيفاً وتقول أنا أقلُ من الحلم، احلم فعلى الأقل من سيحلم يمكنه تنفيذ حلمه، فالذي لا يملك أن يحلم، سيقوم غيره بهذا الدور بل سيضعه جزء من حلمه، والبلد التي لا تملك حلم، ستصبح جزء من أحلام بلاد أخرى، وذو القرنين كان حلمه استكشاف الأرض ولا تستهينوا بكلمة حلم.
التوكل والأخذ بالأسباب:
ولقد نزلت في ذي القرنين أكثر من عشرين آية، ألهذا القدر يحبه الله تعالى! وقد سمع الصحابة هذه الآيات في مكة، ففعلوا ما فعل ذو القرنين في 25 عاماً، جيلُ وراء جيل، وحتى بعد موت النبي_ صلى الله عليه وسلم_، لم تكن حدثت بعد، فكانوا لا يزالون في الجزيرة العربية، لكن يبدوا أنهم حين سمعوا سورة الكهف وقد أمرنا الله تعالى بقراءتها كل يوم جمعة، حدث شيء ما في تفكيرهم.
فلماذا نصوم رمضان؟ ألكي نعود للمعاصي أول يوم للعيد؟ أم أنه مخزون طاقة لكي نقوم بنهضة ونُصلحَ ونُعلمَ، فالصحابة وهم مستضعفون في مكة- كأني أرى أعينهم تلمع وهم يقرأون قصة ذو القرنين كل يوم جمعة! والفكرة وصلتهم بما فيها من قيم، بالإضافة لمجئ هذه القصة بعد قصة الخضر مباشرةً، فالخضر كان يتكلم عن الغيب والروحانيات، فكان لابد من التوازن باتباع الأسباب في قصة ذو القرنين، فلو كان الكلام توقف عند الخضر لكان الجميع ينتظر أفعال الله فيه بدون فعل منه. وقد تحدثنا كثيراً عن الرضا عن الله وأفعاله. أما ذو القرنين فقد قام بثلاث رحلات في كل منها كلمة قبلها "فَأَتْبَعَ سَبَباً" فليس متواكل، فالتوكل هو أن تأخذ بالأسباب وتقوم بكل شيء ثم تقول يا رب!
قرر ذو القرنين قراراً عظيم، فلديه إمكانيات وبداخله طموح وحب لاكتشاف المجهول، لذا قرر أن يأخذ أمته ويذهب بها للطواف بالأرض في ثلاث رحلات من غربها لشرقها لشمالها، وأثناء مروره يساعد البشرية ويُصلح في الأرض، فقد استكمل قوته كأُمة فلمَ لا يفيض بالخير على الآخرين! ولا ينهب شيء من ثروات الشعوب بل يعطي هو، وقد أعطاه الله كثيراً حتى أصبح قوة عالمية، فكيف توظف لخير الآخرين، إذاً ففكرة العولمة ليست جديدة بل بدأها ذو القرنين وهي عولمة الحق والخير، وأيهما أسعد للبشرية؟ عولمة التكنولوجيا أم عولمة الحق والخير؟ ففكرة ذو القرنين هي أنني أنجح وينجح معي الآخرين، وليس من الضروري لكي أنجح أن يفشل الآخرين! ونموذج ذو القرنين هو نموذج عالمي وليس مُهدى فقط للمسلمين، بل مهدى لكل القوى في العالم في كل زمان ومكان، فالقرآن عالمي فلا تغلقوه علينا كمسلمين، وذلك ما قلته في كل القصص مثل قابيل وهابيل ومريم، وأن كلها قصص عالمية.
فالقوى العالمية تحتاج أن تَدرُسَ ذا القرنين، ورجال السياسة يحتاجون أن يدرسوا ذا القرنين، وذو القرنين كان عظيم في قراره لأن لديه شباب وإمكانيات وعلوم. إذا لم تتحرك ماذا يحدث؟ وإذا كان العالم العربي خالٍ من مشروع قومي للشباب فماذا يحدث؟ مخدرات، وتطرف، وإرهاب. فذو القرنين وجه أمته للحركة، وأنا أقول للشباب إذا لم يوجد ذو القرنين ولم يوجد مشروع قومي لبلدك فتحرك أنت، وإلا فلن تخرج الطاقة التي بداخلك، ولهذا تجد شباب يُصبح متدين ثم يعود كما كان، وتجد شباب يتعاطون المخدرات ويجلسون مع أصحاب السوء، فابحث عن مشروع تقوم به، أو أسرة تنقذها، اصنع حياة إنسان، أو أسرة، انزل لقرية من القرى، علِّم الناس.
ذو القرنين قام بثلاث رحلات، أخذ الأرض عرضاً... ملايين الكيلومترات! أول رحلة لإقامة العدل التي هي أول النهضة، والرحلة الثانية هي رحلة تنموية اقتصادية، والرحلة الثالثة هي مواجهة الأعداء الخارجيين المهاجمين لبلادنا، وسنشاهد خمس أُمم من الموجودين في الأرض، وستجد أنها مثل ما نراه اليوم، لأنها مثل الصور أو المرايا التي نرى فيها أنفسنا اليوم، وسنأتي في النهاية للسؤال: يا ترى نحن أي أُمة منهم؟
رحلات ذو القرنين :
حلقة اليوم رسالة للعالم كله، ورسالة للمسلمين بأنه لا يصلح وضعهم هذا، ورسالة للقوى في العالم كله أن يتوجهوا للخير والإصلاح، وسنتحدث عن الرحلة الأولى لذو القرنين. ويقال أنه خرج لليمن متجهاً إلى مغرب الشمس، وتخيل القوة العسكرية الخارجة معه والبلد تودعهم ومعهم العديدَ من المهندسين، والأطباء، وعلماء الجغرافيا، واللغات.
ومغرب الشمس بالنسبة لأي إنسان هو مكان غروبها بالنسبة له سواء كان أمام بحر أو جبل، لكن ذو القرنين وصل إلى آخر الأرض غرباً كما أرشده مستشاريه من علماء الجغرافيا، "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ... " (الكهف86)، والعين الحمئة (هي أرض زراعية خصبة جداً مليئة بالعيون مع انعكاس ضوء الشمس عليها وعلى الطين الأسود) فتكون مثل العين الحمئة، وكانوا قوم لديهم حضارة ومال لكن للأسف ظالمين، ووجد في هذه البلد مظلومون يزرعون الأرض بلا أي حق، وتجد عظماء البلد وأغنياءها استولوا على كل شيء، وعند دخول ذو القرنين البلد ظنوا بالتأكيد للوهلة الأولى أنه أتى لأخذ خيراتهم، ولم يصدقوه حين أخبرهم أنه لم يأتي لهذا السبب، "... قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً "، وهذا اختبار له بعد أن أصبح قوة عالمية ماذا سيفعل؟ فوضع ذو القرنين دستور جديد ولم يعاقب الذي أخطأ من قبل كما ذكرت الآيات: "قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً " ، عقوبات رادعة ولا يوجد فوضى ولا محاباة، وقام بتشجيع الوازع الداخلي في الناس، "وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً " وهذا لمن يُصلِحُ في الأرض والذي سيوضع في مكانه المناسب بدون أي وسائط، وسيكون له جوائز تشجيعية، وهكذا أقام ذو القرنين العدل في هذه البلد، وهذه كانت القصة الأولى.
بالتأكيد لم يتركهم ذو القرنين حتى استقروا وثبتوا على الدستور الجديد، ثم مشى ملايين الكيلومترات الأخرى اتجاه مشرق الشمس، فكم كيلومتراً مشيته أنت من أجل الإصلاح؟ أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام: " أتدري لما اتخذتك خليلاً؟ "، فقال: لما يا رب؟، قال: " لأن حبك للعطاء أكثر من حبك للأخذ". فانظروا لمجهود ذو القرنين! وكيف احتمل من معه! غير أن حبه للعطاء غير عادي! اجعل أولادك يحبون العطاء. "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً "، مثل بعض المناطق الفقيرة في أفريقيا ليس بها شجر أو زرع أو ماء، فهم يعيشون مأساة وكارثة طبيعية، بدون حتى ملابس تسترهم من الشمس، ولديهم جفاف وبدون ماء، فمشكلتهم أنهم كانوا مستسلمين لهذه الكارثة، ويَدََعونَ أن هذا قَدرُهُم! ونسوا أن شق الآبار من قدَّر الله، وحفر الأنهار من قدر الله، وزرع الأرض من قدر الله، فلما لا تُصلحوا قَدَر الله بقَدَر الله!
وهذا كلام لنا، فمشكلة القوم الأولين الظلم أما هؤلاء فمشكلتهم التحجج بالقدر. ألسنا نكرر نفس الكلام دائماً أن هذا قدرنا! وأننا في انتظار المهدي المنتظر لينقذنا! الله عز وجل يرينا في كل رحلة نوعُ من الأُمم، ونوعُ من الإصلاح، وذو القرنين ليس نمطي، فالرحلة الأولى احتاجت للعدل والثانية للإصلاح التنموي، حتى وصل لأفضل إنجاز استفدنا منه حتى اليوم وهو بناء السد الذي منع يأجوج ومأجوج من الدخول علينا حتى اليوم.
انطلق ذو القرنين وجنده حتى وصلوا لأرض فسيحة بين جبلين، في شمال الأرض من الممكن جداً أن تكون ناحية الصين، أو جورجيا، أو الاتحاد السوفيتي. لا أعلم بالتحديد. "حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً " وجد هناك جنسيات جديدة ولا يفقهون قولاً لا تعني أنهم لا يستطيعون الكلام، بل أنه حينما دخل عليهم كانوا في مصيبة، أطفال مقتلين، زرع محترق، خيرات منهوبة، "قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً "، واضح أنهم يعرفونه جيداً، وأن شهرته في ذلك الوقت شهرة عالمية، وأنهم قوم مؤمنين، ويأجوج ومأجوج قبيلتين وظيفتهم أن يخرجوا على هؤلاء القوم لأخذ خيراتهم وذبحهم...وذلك منتهى الفساد، ثم يعودوا حيث أتوا وذلك يحدث مرة كل عام، حتى يبدأ القوم في الزراعة مرة أخرى فيخرج يأجوج ومأجوج من بين السدين لأخذ خيراتهم ثم يعودوا، ومن أسمائهم تشعر بالغلظة التي بهم، فيأجوج: من تأججت النار، ومأجوج: من ماجت الماء مثل الطوفان الذي يُغرق كل شيء، فهم قبيلتين مفسدتين في الأرض.
فقالوا لذو القرنين: "... فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً "، فهم أغنياء لذلك عرضوا المال على ذي القرنين ليجعل لهم سداً يحميهم، فسدُ بين جبلين سيكلف الكثير من المال، وهم أيضاً يعلمون أن الحل هو السد، بل ولديهم موارد طبيعية ألم يقل لهم: "آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ... "، وأيدي عاملة، وقوى بشرية ألم يقل لهم: "... قَالَ انفُخُوا ... قَالَ آتُونِي ... "، فماذا ينقص هؤلاء القوم؟ أرضهم مليئة بالبترول، لديهم شباب، لديهم فكر، لديهم مال، وتنقصهم الإرادة، القصة الأولى قصة عدل، والثانية قصة يأس، والثالثة قصة إرادة، فهم لا يريدون الحركة رغم أنهم في كل يوم يموت منهم ، بل يرغبون في الجلوس كما هم حتى يأتيهم المُنقذ.
لعل رمضان هذا يكون بداية لمائتي عام قادمين، ولن نخجل أن نقول كلمة نهضة، بالرغم من أننا سنموت لكن يكفينا أن نضع البذور، سأطرح سؤالاً: من نحن من هؤلاء؟ أُمة ذو القرنين؟ أم الأُمة المليئة بالظلم؟ أم الأُمة المليئة باليأس؟ أم يأجوج ومأجوج؟ أم الأُمة التي لديها كل شيء سوى الإرادة؟
لسنا كفاراً، ولسنا يأجوج ومأجوج،- رغم أن هناك من يقول عنا هكذا ! ولسنا مملوئين بالظلم لهذه الدرجة الخطيرة، أنا أرى أننا يغلُب علينا الحالة الخامسة وهي الأُمة التي لديها كل شيء سوى الإرادة، رغم أن فينا من قوم ذو القرنين- لكي لا أكون يائساً.
وذو القرنين لم يستجب لأخذ مال على بناء السد، بل قال: "... فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ... " ، لأنه لو أبعد عنهم يأجوج ومأجوج بمفرده بدون مساعدتهم اليوم سيأتيهم مئات مثلهم، ويقولون أن الشعوب نوعان: شعوب غير قابلة للاستعمار، وشعوب قابلة للاستعمار فإذا تركها المستعمر تبحث عن مستعمر يستعمرها، "... فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً "، وبدأ يجمع الحديد من ألواح متساوية، "آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ... "، وآلاف يعملون لنقله كمشروع قومي لهذه البلد، وبنى ما هو أعظم من الهرم، ورفعوا الحديد وضبطوه في مكانه فلديه قوى علمية غير عادية: "... حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً "، ثم أمرهم بتسخين الحديد فهو يعرف خواصه جيداً، حتى إذا أصبح محمراً، أمرهم أن يأتوه به وهو الذي سيفرغ عليه النحاس المذاب، فبدأ النحاس المذاب ينزل على الحديد الملتهب فيتخلله حتى يَجمُد ويصبح أملس لا أحد يستطيع صعوده.
والجميل أنه قام بثلاثة أشياء، وهم قاموا بثلاثة أشياء: "آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً "، وهذا هو العمل الجماعي لمن لا يعرف كيف يعمل جماعياً، وهناك نكتة ظريفة ولكنها مؤلمة: نزل فريق ياباني ليسابق فريق عربي في السباحة ففاز الياباني بتفوق، فوجدوا أن الياباني أحدهم مدير والباقون يقلدونه أما العربي ف9 مديرين وواحدُ يقلدهم! فأصلحوا الوضع وأعادوا ففاز الياباني بمراحل، فوجدوا أن الياباني أحدهم مدير والباقي يقلدونه، أما العربي فواحد مدير و3 مديرين إدارات و4 مديرين أقسام وواحد يقلد، فقرروا اتخاذ قرار صارم بإعداد الشخص الذي يُقلد.
وتخيلوا أن معادلات ذو القرنين مسجلة في كتاب الله، وهي معادلات كيماوية وعلمية، ونحن نتعبد لله ونُصلي في رمضان ونتهجد بالقرآن، ونريد دخول الجنة. أتى يأجوج ومأجوج بعد بناء السد بصياحهم وقوتهم، وذو القرنين منتظر مع جيشه في الناحية الأخرى، وهذا معناه أنه بقي مع القوم قرابة السنة، ولماذا لم يحارب يأجوج ومأجوج؟ لأنني لو أستطيع أن أحمي بدون حرب فهذا أفضل، فليست دائماً البطولة أن تختار الحرب، وإذا كاد أن يصبح بطلاً بالحرب مثل الإسكندر الأكبر فلن يقدر على فعل ذلك، فالإسكندر لديه حب المغامرة مثل ذو القرنين.
خاتمة:
خرج _النبي صلى الله عليه وسلم_ من بيته يوماً مُحمَرَ الوجه، قالوا: ماذا يا رسول الله ؟، قال: " ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فُتِحَ اليوم من يأجوج ومأجوج مثل هذا " وهذا جزء صغير لمدة طويلة! فانظر كيف حمانا سد ذو القرنين طوال هذه المدة الكبيرة! فهو صاحب فضل علينا، فأماننا وأمان أولادنا وأمانكم بسببه، ففضل ذو القرنين على البشرية جمعاء، نموذج جميل! لم نره من قبل، وهو ليس نبي أو مَلَك بل بشر مثلنا! أحببته وفهمت لما يأمرنا الله تعالى بقراءة سورة الكهف كل جمعة.
فانظروا لهذه النماذج واعلموا أي أمة أنتم؟! لتتوجهوا وتصروا على النهوض الجمعة التي تليها ولو مني وهو في طريق النهضة، ومات ذو القرنين، فتخيل جنازته! هل كانت ستمشي بها كل البشرية من مسلمين، وغير مسلمين، ومؤمنين، وغير مؤمنين؟ ولم نراه حارب في أي مرة، فليست الحرب دائماً هي البديل الصحيح، ولم نسمعه أصر على دخول قوم في الإسلام ، فالإصلاح والخير للبشر كلهم، ولهذا يوسف عليه السلام أصلح مصر وهو في السجن، وأنا أقترح أن نُعَلِم أبنائنا قصة ذو القرنين في سن السابعة إلى الثامنة، فلربما يخرج من هذا الجيل مثله، فأنا أنصح بشدة بقصة ذو القرنين وقيمه.